الأحد، 20 فبراير 2022

للأنثى مثل حظ الذكرين | قصة قصيرة

 


 للأنثى مثل حظ الذكرين | قصة قصيرة 

كان لجدتي ولدٌ والذي هو خالي، وبنتٌ هي  التي خصّني الله بها لتكون أمي وأجمل عطايا الخالق، جدتي لم تكن أمًا عادلةً للأسف، لقد خَسرت ابنتها بأفعالها ولم تحضى في المقابل إلا بولدٍ عاقّ.

كان خالي إبنًا سيئًا وأخًا سيئًا وخالًا سيئًا أيضا. كلما أتذكره أقول في نفسي هذا ليس إبن إنه عقاب، عقاب جدتي الظالمة الجاهلة، لقد فَهمَتْ الحياة بشكل خاطئ كما يفعل أغلبنا اليوم، واستمرت على ذات الخطأ حتى حان موعد رحيلها استفاقت من وهمها، وكم كانت متأخرة، التفتت يمنةً ويسرة، فوجدت صراخًا وعويلا ومسبة ...

 تحسّست المكان علّها تجدُ صدرًا حنونا تُلقي عليها رأسها المثقل بالهموم، الهموم التي جنتها من أفعالها وأنانيتها.  فلم تجد سوى القسوة تسكن بيتها، إبنها العاق يهيم في الشوارع أو ربما في إحدى الزوايا سكرانٌ أو ربما يبيع تلك السموم أو يتعاطاها.

على نحيبها وتنهيداتها  وزاد أنينها

 كنّا أنا وأمي نركض في الشارع، يدي تكاد تنخلع من كتفي، من كثرة الشدّ عليها، لم أشعر بالألم حينها إلا بعد أيام، في تلك اللحظة كنت أرى تنهيدات أمي التي تلخّص الكثير، لم تكن الدموع التي ذرفتها كافية لتصف حزنها أو تشفي جرحها، لذلك كانت التنهيدات كهدية من الله إلى أولئك الذين تمزقت أرواحهم، ولا يشفيهم البكاء ولا حتى الصراخ

… _أمي، أنت تؤلمينني! _

لكنني معك ولن أترك يدك أبدًا، أعدك بذلك لم تنتبه أنّ عظام يدي تصدر صوتًا تحت قبضتها، ولماذا تعدني أنّها لن تفلت يدي، كأنها تنوي خلعها، أظنها غير منتبهة إطلاقا أنني معها، ربما هي تعد في نفسها شخصا آخر

وصلنا إلى بيت جدتي، ولازلت لا أفهم شيئا، نادرا ما كنا نزورها، كانت علاقتهما متوترة، وكانت أمي تحاول إخفاء ذلك طول الوقت، لكنني كنت أرى كل شيء وأقرأ الحزن والإنكسار في عيون أمي والندم والحسرة في عيون جدتي، أمي تصبح شخصًا آخر في حضرة جدتي حتى نبرة صوتها لا أعرفها... جدتي ملقاةٌ على الأرض كقطعة من حصير، غابت عن وجهها كل ملامح البشر، إنها أشبه بشبح تائه، تائهٌ بين العوالم الأرضية والسماوية. _

أمي لقد جئت من أجلك، أرجوك لا ترحلي مرتين!  متى رحلت جدتي وعادت، لم أفهم ما قالته أمي في تلك اللحظة، لكنني لا أنسى الحزن والأسى المتدفق من صوتها ووجهها الذي أضحى بيت عزاء تنبعث منه أصوات النُواح والنّشيج


 كانت أمي تصرخ وتنادي عودي، لن ترحلي بهذه السرعة، لن أسمح لك حتى أسامحك حتى أعاتبك، حتى أُشفى من الحقد الذي زرعته في قلبي طيلة ثلاثين سنة الماضية كنت أبكي لمنظر أمي، لن أنسى ذلك اليوم الذي دفنّا فيه جدتي، وهناك في نفس القبر دفنّا جزءًا من أمي

. كان ذلك بعد احتفالنا بعيد ميلادي التاسع بيومين، وبعدها عرفت أمي بمرض والدتها المفاجئ فجئنا ركضا إليها، ماتت جدتي ودُفنت ابتسامة أمي، ولازلت أشعر بآلام محل قبضة أمي . بعد رحيل جدتي بسنتين حملت أمي، وأنجبت لي توأم كانا صبيين رائعين، أحببتهما جدا وكنت لهما الصديقة والأخت وحتى الأم أحيانا. كانا أخواي في غاية اللطف والحب معي، كانت توصيهما خيرا بي فكانا يرياني وصية أم وليس أخت.

كانا أجمل شيء في حياتي أحمد الله عليهما إلى اليوم، أمي كانت ترعانى بعيونها ولم تقصر معنا يوما، كانت دائما تهمس لسامي ورامي بكلامٍ لم أسمعه منها يوما، لا أدري بماذا كانت توصيهما مرّت الأيام ورحلت أمي كما رحلت جدتي، لكنّ أمي حين رحلت كانت كالوردة في ذبولها حتى انطفأت تماما وغادرتنا إلى الأبد.

 

رحلت من الحياة لكنها مازالت في روحي، حية لا يمكن أن أنساها، لازالت تسكنني تنهيداتها منذ ذلك اليوم  وأشعر بها تمسك يدي دائما، صحيح أن ذلك موجع لكنني تعودت على ذلك الألم وأحببته، لأنه مرتبط بأمي وهي تعدني أنها لن تتركني، لم تتركني يوما ولم تفعل شيئا يؤذي روحي، كانت ملاكا يحيطني بالعناية أينما اتجهت، لم أعرف ما عانته أمي إلا بعد وفاتها

  لم تشأ أن تحمّلني آلام طفولتها حتى بعدما  أصبحتُ أما، كانت تحمل ذلك الألم بمفردها وتخبّئه بابتسامتها، بعد أن أصبحت أمًا سميتُ ابنتي ميرا على اسم أمي، لكن حظ ابنتي كان يشبه حظ أمّها فلم يكتب لها الله أن تتذوق طعم حضن الجدّآت

مرّت الأيام بسرعة، وذات يوم من أيام الربيع الدافئة جاء سامي ورامي لزيارتي.  كنت قبلها عازمة على سؤالهما عن سبب حزن أمّي العميق، وماذا كانت تهمس لهما دائما.  أجلساتي بينهما وقصّا عليّ القصة قالت أمي

:  _ منذ ولد أخي أمير حُرمت من أمي، حُرمت من حبّها وحنانها ورعايتها لم تعاملني كأم حتى بدأت أشكّ في كونها أمي، وحين أحتجّ على معاملتها السيئة لي مقابل معاملتها الرائعة لأمير كانت تردّ \"للذكر مثل حظ الأنثيين\"، منذ صغري كرهت هذا النص القرآني، كرهته جدا وأصبحت أرى الحياة من خلاله في كل شيء كانت تردده، وكان لأخي أضعاف ما أحصل عليه أنا من كل شيء

 مرّت الأيام على نفس الوتيرة، وحين كبرت فهمت أنّ  " للذكر مثل حظ الأنثيين " آية تخصّ الميراث فقط وأمي فهمتها خطأ.  تجاوزتُ ذلك وعذرت جهلها، حتى جاء اليوم الذي كشف لي أنني يتيمة وحيدة في هذه الحياة

أمير أدمن على المخدرات وعلى الشرب جرّاء دلالها الزائد له، وأصبح وحشًا كاسر لم يترك شيئا ذا قيمة إلا وباعه ليشتري ذلك السمّ، ليته مات بجرعة زائدة قبل أن يتجرّأ على فعل ما فعله،  لقد باعني بثمن بخس دراهم معدودة، باعني لرجل عفن مثله مقابل حفنة سمّ. وأمي لم تحرّك ساكنًا، لأنّه إبنها …


باعني مثلما تُباع الجواري والسبايا، ومن لطف الله بي استطعت الهرب من بيت ذاك الفاسق الذي اشتراني، وهربت وغادرت المدينة، واعتبرت أنه لا أم لي ولا أخ. تعرفت على والدكم في العمل، وبعدما عرفته وعرفت أخلاقه قبلتُ عرضه وتزوجنا، زارتني أمي عدة مرات وزرتها

  أحاول أن أغفر لهم، لكنني لا أستطيع كرهت تلك الآية، وقطعت على نفسي عهدا أن أكون أما جيدة رزقني الله بكما بعد عُلا وخفت أن تقصرا في حقها، فأوصيتكما دائما  " للأنثى مثل حظ الذكرين ". ما عاشته أمي كان قاسيا جدا، ومن رحم تلك القسوة أهدانا الله أما بنكهة الجنة، أم لم تنجب لي أخوين وحسب، أم أنجبت لي أبوين.  


مواضيع اخرى

سجل في الموقع واربح معنا